الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **
من الخاصية الأساسية للتصور الإسلامي – خاصية الربانية- تنبثق سائر الخصائص الأخرى. وبما أنه "رباني" صادر من الله، وظيفة الكينونة الإنسانية فيه هي التلقي والاستجابة والتكيف والتطبيق في واقع الحياة. وبما أنه ليس نتاج فكر بشري، ولا بيئة معينة، ولا فترة من الزمن خاصة، ولا عوامل أرضية على وجه العموم .. إنما هو ذلك الهدى الموهوب للإنسان هبة لدنية خالصة من خالق الإنسان، رحمة بالإنسان.. بما أنه كذلك. فمن الخاصية فيه تنشأ خاصية أخرى.. خاصية: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت". هناك "ثبات" في "مقومات" هذا التصور الأساسية، و "قيمه" الذاتية. فهي لا تتغير ولا تتطور، حينما تتغير "ظواهر" الحياة الواقعية، و "أشكال" الأوضاع العملية .. فهذا التغير في ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع، يظل محكوماً بالمقومات والقيم الثابتة لهذا التصور.. ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة. ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة –بل دفعها إلى الحركة- ولكن داخل هذا الإطار الثابت، وحول هذا المحور الثابت.. وهذه السمة – سمة الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت- هي طابع الصنعة الإلهية في الكون كله – فيما يبدو لنا- لا في التصور الإسلامي وحده. "مادة" هذا الكون – سواء كانت هي الذرة أو الإشعاع البسيط المنطلق عند تحطيمها، أو أية صورة أخرى – ثابتة الماهية. ولكنها تتحركن فتتخذ أشكالاً دائمة التغير والتحور والتطور. والذرة ذات نواة ثابتة تدور حولها الإلكترونات في مدار ثابت. وكل كوكب وكل نجم له مداره، يتحرك فيه حول محوره، حركة منتظمة، محكومة بنظام خاص. و "إنسانية" هذا الإنسان، المستمدة من كونه مخلوقاً فيه نفخة من روح الله اكتسب بها إنسانيته المتميزة عن سائر طبائع المخلوقات حوله.. إنسانية هذا الإنسان ثابتة. ولكن هذا "الإنسان" يمر بأطوار جنينية شتى من النطفة إلى الشيخوخة! ويمر بأطوار اجتماعية شتى، يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه وابتعاده من م صدر إنسانيته. ولكن هذه الأطوار وتلك لا تخرجه من حقيقة "إنسانيته" الثابتة. ونوازعها وطاقاتها واستعداداتها المنبثقة من حقيقة إنسانيته. ونزوع هذا الإنسان إلى الحركة لتغيير الواقع الأراضي وتطويره .. حقيقة ثابتة كذلك .. منبثقة أولاً من الطبيعة الكونية العامة، الممثلة في حركة المادة الكونية الأولى وحركة سائر الأجرام في الكون. ومنبثقة ثانياً من فطرة هذا الإنسان. وهي مقتضى وظيفته في خلافة الأرض. فهذه الخلافة تقتضي الحركة لتطوير الواقع الأرضي وترقيته .. أما أشكال هذه الحركة فتتنوع وتتغير وتتطور. وهكذا تبدو سمة: "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" سمة عميقة في الصنعة الإلهية كلها. ومن ثم فهي بارزة عميقة في طبيعة التصور الإسلامي. ونحن نسبق السياق هنا، فنستعرض نماذج من المقومات والقيم الثابتة في هذا التصور (سيجئ تفصيل الكلام عنها في موضعه في القسم الثاني من هذا البحث) وهي التي تمثل "المحور الثابت" الذي يدور عليه المنهج الإسلامي في إطاره الثابت. إن كل ما يتعلق بالحقيقة الإلهية – وهي قاعدة التصور الإسلامي- ثابت الحقيقة، وثابت المفهوم أيضاً. وغير قابل للتغيير ولا للتطوير: حقيقة وجود الله، وسرمديته، ووحدانيته –بكل إشعاعاتها- وقدرته، وهيمنته، وتدبيره لأمر الخلق، وطلاقة مشيئته .. إلى آخر صفات الله الفاعلة في الكون والحياة والناس.. وحقيقة أن الكون كله –أشياءه وأحياءه- من خلق الله وإبداعه. أراده الله –سبحانه- فكان. وليس لشيء ولا لحي في هذا الكون، أثارة من أمر الخلق في هذا الكون، ولا التدبير ولا الهيمنة. ولا مشاركة في شيء من خصائص الألوهية بحال.. وحقيقة العبودية لله .. عبودية الأشياء والأحياء .. وعموم هذه العبودية للناس جميعاً. بما فيهم الرسل –عليهم الصلاة والسلام- عبودية مطلقة، لا تتلبس بها أثارة من خصائص الألوهية. مع تساويهم في هذه العبودية.. وحقيقة أن الإيمان بالله – بصفته التي وصف بها نفسه – وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.. شرط لصحة الأعمال وقبولها. وإلا فهي باطلة من الأساس، غير قابلة للتصحيح، ومردودة غير محتسبة وغير مقبولة .. وحقيقة أن الله لا يقبل من الناس ديناً سواه. وأن الإسلام معناه إفراد الله –سبحانه- بالألوهية وكل خصائصها. والاستسلام لمشيئته، والرضى بالتحاكم إلى أمره ومنهجه وشريعته. وأن هذا هو دينه الذي ارتضاه. لا أي دين سواه. وحقيقة أن "الإنسان" – بجنسه- مخلوق مكرم على سائر الخلائق في الأرض مستخلف من الله فيها. مسخر له كل ما فيها. ومن ثم فليست هناك قيمة مادية في هذه الأرض تعلو قيمة هذا الإنسان، أو تهدر نم أجلها قيمته.. وحقيقة أن الناس من أصل واحد. ومن ثم فهم –من هذه الناحية- متساوون. وأن القيمة الوحيدة التي يتفاضلون بها – فيما بينهم- هي التقوى والعمل الصالح. لا أية قيمة اخرى، من نسب، أو مال، أو مركز، أو طبقة، أو جنس .. إلى آخر القيم الأرضية. وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة لله .. بمعنى العبودية المطلقة لله وحده. بكل مقتضيات العبودية، وأولها الائتمار بأمره –وحده- في كل أمور الحياة صغيرها وكبيرا والتوجه إليه –وحده- بكل نية وكل حركة، وكل خالجة وكل عمل. والخلافة في الأرض وفق منهجه- أو بتعبير القرآن وفق دينه – إذ هما تعبيران مترادفان عن حقيقة واحدة.. وحقيقة أن رابطة التجمع الإنساني هي العقيدة، وهي هذا المنهج الإلهي .. لا الجنس، ولا القوم، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة، ولا المصالح الاقتصادية أو السياسية، ولا أي اعتبار آخر من الاعتبارات الأرضية .. وحقيقة أن الدنيا دار ابتلاء وعمل. وأن الآخرة دار حساب وجزاء. وأن الإنسان مبتلى وممتحن في كل حركة، وفي كل عملن وفي كل خير يناله أو شر، وفي كل نعمة وفي كل ضر .. وأن مرد الأمور كلها إلى الله.. … هذه وأمثالها من المقومات والقيم – التي سنعرض لها بالتفصيل في مواضعها في القسم الثاني من هذا البحث –كلها ثابتة، غير قابلة للتغير ولا للتطور .. ثابتة لتحرك ظواهر الحياة وأشكال الأوضاع في إطارها، وتظل مشدودة إليها. ولتراعي مقتضياتها في كل تطور لأوضاع الحياة، وفي كل ارتباط يقوم في المجتمع، وفي كل تنظيم لأحوال الناس أفراداً وجماعات، في جميع الأحوال والأطوار. وقد تتسع المساحة التي تتجلى فيها مدلولات هذه المقومات والقيم، كلما اتسعت جوانب الحياة الواقعية، وكلما اتسع مجال العلم الإنساني، وكلما تعددت المفاهيم التي تتجلى فيها هذه المقومات والقيم. ولكن أصلها يظل ثابتاً. وتتحرك في إطاره تلك المدلولات والمفاهيم. حقيقة أن الإنسان مستخلف في هذه الأرض –مثلاً- تتجلى في صور شتى .. تتجلى في صورته وهو يزرع الأرض. لأن أوضاع حياته ومدى تجاربه تجعل الزراعة هي التي تفي في ذلك الطور باحتياجاته الضرورية، وبها تتحقق الخلافة.. وتتجلى كذلك في صورته وهو يفجر الذرة، ويرسل الأقمار الصناعية لتكشف له طبيعة الغلاف الجوي للأرض، أو طبيعة الكواكب والتوابع من حوله .. هذه وتلك – وما بينهما وما بعدهما- صور من صور الخلافة في الأرض، قابلة دائماً للزيادة والاتساع. ولكن حقيقة الخلافة في الأرض ثابتة على كل حال. يقتضي مفهومها الثابت ألا يحال بين الإنسان ومزاولة حقه في الخلافة وفق منهج الله المرسوم. وألا يعلوا شيء في هذه الأرض على "الإنسان". وألا تهدر قيمته "الإنسانية" لينشئ قمراً صناعياً، أو ليضاعف الإنتاج المادي ! فهو سيد الأقمار الصناعية، وسيد الإنتاج المادي! وحقيقة أن غاية الوجود الإنساني هي العبادة –مثلاً- تتمثل في كل نشاط يتجه به الإنسان إلى الله. وألوان النشاط غير محدودة. فهي تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. وتتمثل في عبوديته لله وحده، بالتحاكم إلى منهجه وحده، في كل شؤون الحياة. وهذه الشؤون غير محدودة. فهي كذلك تابعة لمقتضيات الخلافة النامية المتجددة .. ولكن حقيقة الغاية ثابتة لا تتغير. فإذا لم يتجه إلى الله بكل نشاط. وإذا لم يتحاكم إلى منهج الله في كل شأن، فقد أخل بهذه الحقيقة الثابتة، وخرج على غاية وجوده الإنساني. واعتبر عمله باطلاً غير قابل للتصحيح المستأنف، ولا بالقبول من المؤمنين. وهكذا – على هذا النحو- تتسع مساحة مدلولات هذه المقومات، وتتنوع الصور التي تتجلى فيها .. ولكنها هي ثابتة في التصور الإسلامي، لا يتناولها التغير ولا التطور على كل حال. وقيمة وجود تصور ثابت للمقومات والقيم على هذا النحو، هي ضبط الحركة البشرية، والتطورات الحيوية. فلا تمضي شاردة على غير هدى – كما وقع في الحياة الأوربية عندما أفلتت من عروة العقيدة – فانتهت إلى تلك النهاية البائسة، ذات البريق الخادع واللألاء الكاذب، الذي يخفي في طياته الشقوة والحيرة والنكسة والارتكاس. وقيمته هي وجود الميزان الثابت الذي يرجع إليه "الإنسان" بكل ما يعرض له من مشاعر وأفكار وتصورات، وبكل ما يجدّ في حياته من ملابسات وظروف وارتباطات. فيزنها بهذا الميزان الثابت. ليرى قربها أو بعدها من الحق والصواب.. ومن ثم يظل دائماً في الدائرة المأمونة، لا يشرد إلى التيه، الذي لا دليل فيه من نجم ثابت، ولا من معالم هادية في الطريق! وقيمته هي وجود "مقوّم" للفكر الإنساني مقوّم منضبط بذاته. يمكن أن ينضبط به الفكر الإنساني. فلا يتأرجح مع الشهوات والمؤثرات. وإذا لم يكن هذا المقوم الضابط ثابتاً. فكيف ينضبط به شيء إطلاقاً! إذا دار مع الفكر البشري –كيفما دار- ودار مع الواقع البشري –كيفما دار- فكيف تصبح عملية الضبط ممكنة. وهي لا ترجع إلى ضابط ثابت. يمسك بهذا الفكر الدوّار؟ أو بهذا الواقع الدوّار؟! إنها ضرورة من ضرورات صيانة النفس البشرية، والحياة البشرية، أن تتحرك داخل إطار ثابت، وان تدور على محور لا يدور! إنها على هذا النحو تمضي على السنة الكونية الظاهرة في الكون كله، والتي لا تختلف في جرم من الأجرام! إنها ضرورة لا تظهر كما تظهر اليوم. وقد تركت البشرية هذا الأصل الثابت، وأفلت زمامها من كل ما يشدها إلى محور. وأصبحت أشبه بجرم فلكي خرج من مداره، وفارق محوره الذي يدور عليه في هذا المدار. ويوشك أن يصدكم فيدمر نفسه ويصيب الكون كله بالدمار. (المؤمنون: 71) والعاقل "الواعي" الذي لم يأخذه الدوار الذي يأخذ البشرية اليوم. حين ينظر إلى هذه البشرية المنكودة يراها تتخبط في تصوراتها، وأنظمتها، وأوضاعها، وتقاليدها، وعاداتها، وحركاتها كلها تخبطاً منكراً شنيعاً .. يراها تخلع ثيابها وتمزقها كالمهووس! وتتشنج في حركاتها وتتخبط وتتلبط كالممسوس .. يراها تغير أزياءها في الفكر والاعتقاد، كما تغير أزياءها في الملابس، وفق أهواء بيوت الأزياء! .. يراها تصرخ من الألم، وتجري كالمطارد، وتضحك كالمجنون، وتعربد كالسكير، وتبحث عن لاشيء! وتجري وراء أخيله! وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من أحجار وأوضار! لعنة! لعنة كالتي تتحدث عنها الأساطير! إنها تقتل "الإنسان" وتحوله إلى آلة .. لتضاعف الإنتاج! إنها تقضي على مقوماته "الإنسانية" وعلى إحساسه بالجمال والخلق والمعاني السامية لتحقيق الربح لعدد قليل من المرابين وتجار الشهوات، ومنتجي الأفلام السينمائية وبيوت الأزياء. وتنظر إلى وجوه الناس، ونظراتهم، وحركاتهم، وأزيائهم، وأفكارهم، وآرائهم، ودعواتهم. فيخيل إليك أنهم هاربون! مطاردون! لا يلوون على شيء، ولا يتثبتون من شيء! ولا يتريثون ليروا شيئاً ما رؤية واضحة صحيحة .. وهم هاربون فعلاً! هاربون من نفوسهم التي بين جنوبهم! هاربون من نفوسهم الجائعة القلقة الحائرة، التي لا تستقر على شيء "ثابت" ولا تدور على محور ثابت، ولا تتحرك في إطار ثابت.. والنفس البشرية لا تستطيع أن تعيش وحدها شاذة عن نظام الكون كله. ولا تملك أن تسعد وهي هكذا شاردة تائهة، لا تطمئن إلى دليل هاد، ولا تستقر على قرار مربح! وحول هذه البشرية المنكودة زمرة من المستنفعين بهذه الحيرة الطاغية، وهذا الشرود القاتل.. زمرة من المرابين، ومنتجي السينما، وصانعي الأزياء والصحفيين، والكتاب.. يهتفون لها بالمزيد من الصرع والتخبط والدوار، كلما تعبت وكلت خطاها، وحنت إلى المدار المنضبط والمحور الثابت، وحاولت أن تعود! زمرة تهتف لها .. التطور .. الانطلاق .. التجديد .. بلا ضوابط ولا حدود .. وتدفعها بكلتا يديها إلى المتاهة كلما قاربت من المثابة .. باسم التطور .. وباسم الانطلاق .. وباسم التجديد.. إنها الجريمة. الجريمة المنكرة في حق البشرية كلها. وفي حق هذا الجيل المنكود! وفكرة "التطور" المطلق، لكل الأوضاع، ولكل القيم، ولأصل التصور الذي ترجع إليه القيم. فكرة تناقض –كما قلنا- الأصل الواضح في بناء الكون، وفي بناء الفطرة. ومن ثم ينشأ عنها الفساد الذي لا عاصم منه .. إنها تمنح حق الوجود، ومبرر الوجود، لكل تصور، ولكل قيمة، ولكل وضع، ولكل نظام. ما دام تالياً في الوجود الزمني! وهو مبرر تافه، عرضي، لا ينبغي أن يكون له وزن في الحكم على تصور أو وضع أو قيمة أو نظام. إنما ينبغي أن يكون الوزن لمقومات ذاتية في ذات الوضع أو ذات النظام. ونحن نعرف أن الفكر الأوربي – في هروبه من الكنيسة، ورغبته الخفية والظاهرة في خلع نيرها- قد مال إلى نفي فكرة "الثبات" –على الإطلاق- واستعاض عنها فكرة "التطور" –على الإطلاق- لم يستثن منها أصل العقيدة والشريعة. بل لقد كانت فكرة ثبات مقومات العقيدة والشريعة بالذات هي التي يريد التفلت منها والتملص والخلاص! وسلوك الفكر الغربي هذا المسلك مفهوم لنا جيداً من خلال الاستعراض السابق. وما يفسره – وإن لم يكن له ما يبرره على إطلاقه – ونحن لا نشتد في لوم الفكر الغربي على موقفه هذا. وإن يكن موقفاً خاطئاً معيباً. فقد صادف عقيدة محرفة مشوهة مشوبة بالوثنيات والأساطير منذ اللحظة الأولى. ثم واجه كنيسة مستبدة فاسدة في الوقت ذاته، تستطيل على الفكر والعلم والناس باسم هذه الخرافات التي تجعلها أساس العقيدة "الثابتة"! نحن لا نشتد في لوما لفكر الغربي على هذا الموقف. ولكننا –في الوقت ذاته- يجب أن نفطن إلى الأسباب الحقيقية لجنوح الفكر الغربي – أو جموحه- لتغليب فكرة "التطور" المطلق، الذي لا يتقيد بأي أصل ثابت، ولا بأية قيمة ثابتة، ولا بأية حقيقة ثابتة. فليست هذه "حقيقة علمية" وإنما هي شهوة جامحة، وهوى شارد، مبعثه الرغبة في التملص من وثاق الكنيسة الجبار! إن دارون – وهو يقرر مذهب التطور في خط سير الحياة – لم يكن يبحث، ولم يكن بحثه يتناول، إلا جزئية سطحية من جزئيات هذا الكون، تبدأ بعد وجود الحياة. ولا تمتد إلى مصدر الحياة، ولا إلى الإرادة التي صدرت عنها الحياة.. وحتى على فرض صحة نظريته – والآن توجه معاول الهدم إلى صلب النظرية – فإن خط التطور يثبت أن هناك إرادة ثابتة من ورائه. وأنه يتم وفق خط مرسوم لا مجال للمصادفة فيه. وأنه جزء من "الحركة" التي هي قانون من قوانين الكون. وحركة الكون كما قلنا ليست فوضى، وإنما هي تتم حول قاعدة "ثابتة" وتتم في إطار "ثابت!". وعلى أية حال فلم يكن لا "المنهج العلمي" ولا "الحقائق العلمية" هي التي أملت على دارون – حين لم يهتد إلى سر الحياة، ولم يستطع تعليلها علمياً- أن يهرب من ردها إلى الله. ووجودها ذاته يحتم الاعتراف بأن موجدها لابد أن يكون مريداً مختاراً فيما يريد، عليماً خبيراً، قادراً على تحقيق ما يريد .. ولكن دارون كان هارباً من "الله" لأنه كان هارباً من الكنيسة وإلهها الذي تصول باسمه وتجول .. ومن ثم رد الحياة إلى "الطبيعة" – التي لا حد لقدرتها كما يقول! ومن ثم حاول أن يوهم أن لا ثبات لشيء –على الإطلاق- بينما بحثه كله كان في دائرة خط سير الحياة. بعد وجود الحياة. ولم يكن يتناول "كل شيء" على الإطلاق! والمذهب الماركسي، هو أشد المذاهب "الوضعية" معارضة لحقيقة "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت"، لأن الاعتراف بهذه الحقيقة البارزة في طبيعة الكون "المادي" ذاته، يفقد المذهب ركيزته الأولى التي يقوم عليها، ويحطم دعواه في "التقدمية" كما يفهمها! "وماركس له جدل (Dialektik) ومنطق استخدم فيه مبدأ "النقيض" الذي عرف للفيلسوفين الألمانيين قبله: نيتشه وهيجل. ولكن استخدمه في مجال آخر غير مجال "التصور" عند نيتشه وغير مجال "الفكرة" عند هيجل استخدمه في مجال "الاقتصاد" مستنداً إلى تاريخ الجماعة. " فكل "شيء" في نظره يتضمن نقيضه. بحيث أن كل "شيء" يهدم نفسه.. وهذا هو التصوير العام لمبدأ النقيض .. ولكن ماركس يستخدمه للتدليل على وقوع انهيار "الجماعات" التي قامت على "الرأسمالية". فالجماعات السابقة عليها. وهي دول الملوك، والجماعات الإقطاعية (أصحاب المزارع الكبيرة) انهارت – بناء على تفكير ماركس – لأنها تضمنت عنصر المقابلة أو النقيض. وعلى هذا النحو كذلك ستنهار هذه الجماعة الحديثة "الرأسمالية" وتتحول إلى المقابل والنقيض. وهو الجماعة "الشيوعية" ذات الطبقة الواحدة من العمال. "ومع أن مبدأ النقيض لا يقف بتحول الشيء إلى مقابله فقط. بل سيتحول الشيء ومقابله إلى جامع لهما. ثم هذا الجامع يصير إلى "شيء" يتحول أيضاً إلى مقابلة. ثم إلى جامع … وهكذا. مع أن منطق هذا المبدأ هو الاستمرار في التحول .. فالماركسية تقف بترقب تحول الجماعة. ولا تتحدث – فضلاً عن أن تترقب – عن انهيار الجماعة الشيوعية وسقوطها، وهدم نفسها في جماعة مقابلة. بناء على أن كل شيء يتضمن نقيض نفسه، وفيه عامل الهدم لنفسه!! … "وكنتيجة لهذا (أي للتحول الدائم الذي يقف به ماركس عند الشيوعية تحكماً وهوىً) أن الذي يعتقد بالقيم الأزلية هو مصدق بأشياء لا توجد. حتى هؤلاء الذين يعتقدون أن بعض القيم للوقت الحاضر، أو للحال الراهن، يجب أن يحتفظ بها، هم مصدقون بما لا يقع. فإذا اعتقد شخص أن كل شيء يتغير. فمن السذاجة أن يكون محافظاً"! "وعلى نحو صنيع هيجل في صياغة مبدأ النقيض، توضح الماركسية أن كل شيء يتضمن قوتين رئيسيتين متقابلتين: واحدة تسمى "الدعوى" والأخرى تسمى "مقابل الدعوى". وهاتان القوتان تهدم إحداهما الأخرى. ولكن ينشأ من الهدم حالة جديدة تسمى "جامع الدعوى ومقابلها" ثم يسقط هذا الجامع ويتحول إلى مقابله. وعندئذ نحصل على دعوى ومقابل الدعوى من جديد. ثم ينشا من تقابلهما وتناقضهما جامع جديد. في تسلسل لا نهاية له. وصياغة مبدأ النقيض في هذه العبارات تناسب تطبيقه في دائرة "الجماعة" التي اختارتها الماركسية مجالاً للتطبيق. كما تناسب "الصراع" بين الطبقات في الجماعة، التي حرصت هي أيضاً على أن يكون مصطلحاً لها، بدلاً عن "التقابل" بين الشيء ومقابله، الذي اصطلح عليه نيتشه وهيجل من قبل في شرح النقيض. "واستخدام مبدأ النقيض في دائرة "الجماعة" –كما اختارت الماركسية- يعطيها دليلاً على أن الشيوعية –كجماعة- هي أسمى في القيمة من كل جماعة وجدت سابقاً! فالجماعة ذات النظام الملكي سقطت، وتحولت إلى الجانب المقابل- وهو حكام الملك من جانب والعبيد والفقراء من جانب آخر – ومن الكفاح بين الفريقين المتقابلين تكوَّن الجامع بين الشيء ومقابله –وهو الجماعة الإقطاعية- وبعد ذلك سقط الإقطاع في القوة المقابلة – وهي قوة الملاك من جانب والفلاحين من جانب آخر- ومن الكفاح بين الملاك والفلاحين نشأت الرأسمالية .. وتريد الماركسية أن تقول الآن:إن الرأسمالية (في الصناعة) ستسقط في القوة المقابلة – وهي قوة العمال من جانب وأصحاب العمل من جانب آخر – والجماعة الجديدة هي الجماعة الاشتراكية الماركسية ذات الطبقة الواحدة! "ولكن أيقف "مبدأ النقيض" عند هذه الجماعة الجديدة؟ أم ستسقط هي بدورها في مقابل لها – كما هي ضرورة منطق هذا المبدأ- كضرورة حتمية في الوجود؟! "وانتقال الجماعة من حال إلى حال يصحبه في نظر الماركسية التطور في "القيمة" فالإقطاع أسمى من دولة الملك. والرأسمالية أسمى من الإقطاع. والشيوعية أسمى من الجماعات الرأسمالية! "وادعاء أن كل جماعة أسمى من سابقتها مصدر براق للدعاية الشيوعية. وكثير من الناس يصيرون أتباعاً للشيوعية، لأنهم يعتقدون أنهم يعملون من أجل عالم أحسن من أي عالم وجد قبل ذلك"!!! وظاهر من هذا العرض لأصول المذهب الماركسي أنه قائم على "التحكم" الذي تمليه الرغبة في الوصول إلى نتائج معينة مرسومة من قبل! لا على الواقع. ولا على تتبع هذا الواقع. فمبدأ النقيض ابتداء – كما هو في فلسفة نيتشه وهيجل – مجرد "تحكم" تصوري فكري، لا رصيد له من الواقع –كما أسلفنا- وحين يطبقه كارل ماركس على تاريخ الجماعة البشرية، يعتمد أولاً أن يسقط جميع "مقومات" الجماعات البشرية، التي يمكن أن يجري فيها التحول – إذا صح مبدأ النقيض – ويعتمد فقط المقوّم الاقتصادي ويشرح التحول فيه – وهو على كل أهمية- لا يمثل كل مقومات الحياة الإنسانية.. ثم هو بعد ذلك كله يعتمد تاريخ جماعة معينة – هي الجماعة الأوربية- ثم هو يتحكم في تاريخ هذه الجماعة الخاصة. فيختار نقطاً معينة فيه. فضلاً على استحالة إدراك فرد واحد، في جيل من الأجيال، لجميع العوامل والمؤثرات التي لعبت أدوارها في حياة هذه الجماعة على مدار القرون! فيختار مظهراً واحداً من مظاهر نشاطها ويهمل سائر المظاهر! ثم يتحكم مرة رابعة أو خامسة أو عاشرة، فيعتبر أن كل وضع تال خير من الوضع السابق له على الإطلاق. ومع ذلك لا يريد أن يدع العجلة تمضي إلى وضع خير من الشيوعية .. بل يوقف سير التاريخ عند هذه النقطة! ويضحي بالخير الآتي !!! ومع هذا التهافت في بناء المذهب على مجرد التحكم والهوى، فقد صحبته لوثة في وزن القيم لم تقتصر على معتنقيه، بل تجاوزتهم إلى المعارضين له كذلك: في أوربا وفي أمريكا! لوثة التخلي عن كل ما هو سابق، والتقاط كل ما هو لاحق. ولوثة التحلل من كل قيمة تصد الشهوات عن الانطلاق بلا حدود ولا قيود. ولوثة السخرية من ثبات القيم الأخلاقية وغير الأخلاقية. اللوثة التي كان للماركسية من ورائها هدف خاص، وغاية مرسومة سلفاً. ولم تكن هي بذاتها نتيجة منطقية لأية دراسة "علمية"! فالتطور المطلق هو مجرد عملية تبرير لكل ما يراد عمله. وهو أولاً وقبل كل شيء عملية تبرير لما تريده "الدولة" بالأفراد، بحيث لا يكون هناك مبدأ ثابت، ولا قيمة ثابتة، يلوذ بها الأفراد في مواجهة الدولة. وبحيث لا يكون هناك "حق ثابت" يفئ إليه الجميع، ولا دستور ثابت يتحاكم إليه الجميع! وفي نظير إطلاق يد الدولة تجاه الأفراد من كل قيد، تطلق الدولة "شهوات" الأفراد من كل قيد. ليجدوا في هذا الانطلاق "الحيواني" تعويضاً عن قيمهم المسلوبة، وحرياتهم المسلوبة، وحقوقهم المسلوبة! انطلاق حيواني للشهوات، يقابله انطلاق استبدادي للسلطة.. واحدة بواحدة .. وبدلاً من أن تقوم هذه الصفقة على مجرد الاصطلاح العرفي الصامت بين الفريقين! فإنها تقوم على مبدأ "فلسفي"! وعلى مذهب "علمي"! تقوم على "مبدأ النقيض" وتقوم على "المادية الجدلية"! وهذا هو المذهب الذي يزعم أن "الدين مخدر" وأن ثبات القيم في الدين مقصود به خدمة الطبقة الحاكمة! إن "الثبات" في مقومات التصور الإسلامي وقيمه – فضلاً على أنه امتداد للنظام الكوني- هو الذي يضمن للحياة الإسلامية خاصية "الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت" فيضمن للفكر الإسلامي وللحياة الإسلامية مزية التناسق مع النظام الكوني العام، ويقيه شر الفساد الذي يصيب الكون كله لو اتبع أهواء البشر، بلا ضابط من قاعدة ثابتة لا تتأرجح مع الأهواء. وهو الذي يقي الفكر الإسلامي ويقي المجتمع الإسلامي مثل تلك اللوثة في الفكر الماركسي وفي الجماعة الشيوعية. وهي اللوثة ذاتها التي أصابت الفكر الغربي والمجتمعات الغربية بصفة عامة – حتى وهي تعارض الماركسية من الناحية المذهبية والسياسية – وذلك منذ أفلتت من نطاق العقيدة، في ظل تلك الملابسات النكدة.. وهو الذي يبث الطمأنينة في الضمير المسلم، وفي المجتمع المسلم .. الطمأنينة إلى ثبات الإطار الذي تتحرك فيه حياته، وثبات المحور الذي تدور حياته حوله. فيشعر أن حركته إلى الأمام، ثابتة الخطو، موصولة الخيط، ممتدة من الأمس إلى اليوم إلى الغد. نامية مطردة النمو. صاعدة في المرتقى المرسوم، بالتقدير الإلهي القويم. ثم هو –في النهاية- الذي يضمن للمسلم في المجتمع الإسلامي مبادئ ثابتة يتحاكم إليها هو وحكامه على السواء. فلا يطلق هؤلاء أيديهم في مقوماته وحرياته وحقوقه، في مقابل أن يطلقوا هم حرية الشهوات والنزوات الحيوانية للجماهير المكبوتة في قماقم الاستبداد! وبعد فإن التصور الإسلامي – من ثم- يقوم على أساس أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية. ولا علاقة للزمان أو للمكان في تقدير قيمة هاتين الحالتين. إنما القيمة لذات كل حالة. ولوزنها في ميزان الله الثابت، الذي لا يتأثر بالزمان والمكان.. حالتان اثنتان تتعاوران الحياة البشرية على مدى الزمان واختلاف المكان: حالة الهدى وحالة الضلال – مهما تنوعت ألوان الضلال – حالة الحق وحالة الباطل – مهما تنوعت ألوان الباطل – حالة النور وحالة الظلام- مهما تنوعت ألوان الظلام- حالة الشريعة وحالة الهوى مهما تنوعت ألوان الهوى – حالة الإسلام وحالة الإسلام وحالة الجاهلية – مهما تنوعت ألوان الجاهلية- حالة الإيمان وحالة الكفر – مهما تنوعت ألوان الكفر – وإما يلتزم الناس الإسلام ديناً (أي منهجاً للحياة ونظاماً) وإلا فهو الكفر والجاهلية والهوى والظلام والباطل والضلال. (آل عمران: 19) (آل عمران: 85) (يونس: 32) (الجاثية: 18) (الأنعام: 153) (البقرة: 257) (المائدة: 44) (المائدة: 50) (النساء: 59) فإذا ثبت هذا الإطار استطاعت الحياة – فكرة وتصوراً وواقعاً ونظاماً – أن تتحرك في داخله بحرية ومرونة، واستجابة لكل تطور فطري صحيح، مستمد من التصور الكلي الثابت القويم. والقيمة الكبرى لهذه الخاصية، هي تثبيت الأصل الذي يقوم عليه شعور المسلم وتصوره، فتقوم عليه الحياة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في استقرار وثبات. مع إطلاق الحرية للنمو الطبيعي في الأفكار والمشاعر، وفي الأنظمة والأوضاع. فلا تتجمد في قالب حديدي ميت – كالذي أرادته الكنيسة في العصور الوسطى – ولا تنفلت كذلك من كل ضابط انفلات النجم الهالك من مداره وفلكه! وانفلات القطيع الشارد في المهلكة المقطوعة! كما صنعت أوربا في تاريخها الحديث، حتى انتهت إلى ذلك التفكير الشائه! ولعل هذه الخاصية هي التي ضمنت للمجتمع الإسلامي تماسكه وقوته مدى ألف عام. على الرغم من جميع الهزات، ومن جميع الضربات، ومن جميع الهجمات الوحشية عليه من أعدائه المحيطين به في كل مكان .. ولم يبدأ تفككه وضعفه إلا منذ أن تخلى عن هذه الخاصية في تصوره، وإلا منذ أن أفلح أعداؤه في تنحية التوجيه الإسلامي، وإحلال التوجيهات الغربية مكانه في العالم الإسلامي. ومما لا شك فيه أن المجتمع الذي يجري دائماً وراء تصورات متقلبة أبداً، لا تستند إلى أصل ثابت إطلاقاً، تنبع من الفكر البشري المحدود المعرفة، الظنى المعرفة كذلك، الذي يبني علمه –مهما علم- على الظن والحدس والخرص، والفروض المتقلبة أبداً .. ثم يجعل من هذا العلم الظني إلهاً، او يجعل من الهوى المتقلب إلهاً، يتلقى منه التصورات والقيم والموازين. مما لا شك فيه أن مجتمعاً كهذا معرض دائماً للهزات العنيفة، والأرجحة المستمرة، التي تنشئ في عقله الحيرة، وفي ضميره البلبلة، وفي أعصابه التعب، وفي حياته الشرود، وفي كيانه الفساد. وهذا هو الذي حدث في المجتمعات الأوروبية المفلتة من كل أصل ثابت. وهذا هو الذي تشقى به البشرية كلها اليوم. وهي تخبط في التيه، وراء المجتمعات الأوروبية الشاردة! لابد من تصور ثابت المقومات والقيم، يجئ من مصدر ثابت العلم والإرادة! مصدر يرى المجال كله، والخط كله، فلا تخفى عليه منحنيات الدرب، ولا يقدر اليوم تقديراً يظهر في غد خطؤه ونقصه، ولا تتلبس به شهوة أو هوى يؤثر في موازينه وتقديراته .. ولا ضير بعد هذا من الحركة، والتغير، والتطور، والنمو والترقي.. بل تصبح كلها مطلوبة، وتصبح كلها مأمونه، وتصبح كلها تلبية للفطرة: القائمة على الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت. ولكنها حركة راشدة واعية، مدركة للغاية الثابتة التي تتجه إليها، في خطو متزن، مستقيم راسخ.. وهذا هو ضمان الحياة الطويلة المدى، المتناسقة التصميم. ولا نحتاج إلى الحيطة ضد التجمد في قالب حديدي، ونحن نستمسك بهذه الخاصية في التصور الإسلامي – خاصية الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت – فخاطر التجمد لا يرد على مثل هذا التصور، ولا على الحياة التي تتحرك في إطاره. فالحركة كما قلنا هي القاعدة فيه، كما أنها هي القاعدة في التصميم الكوني. والكون لا يتجمد ولا يأسن ولا يفسد ولا يركد. فهو في حركة دائمة، وفي تغير دائم، وفي تطور دائم، وفي تشكل مستمر في كل لحظة. ولكنه يتحرك مع استبقاء حقيقته الأصيلة كما قلنا في مطلع هذه الفقرة. وحين نطالع مذاهب الفكر الغربي، فنرى الطابع الغالب عليها هو اعتبار "التطور" المطلق – دون الرجوع إلى أي أصل ثابت – فيجب أن نكون واعين للعوامل التاريخية التي جعلت هذا الفكر يجنح –أو يجمح- هكذا. ويجب أن نفطن لما اندس في هذا الفكر من عداء عميق كامن للتفكير الديني على الإطلاق، والأسباب القابعة وراء هذا العداء. ويجب أن ندرك أن مناهج هذا الفكر – بما اندس في صلبها من هذا العداء – لا تصلح للتطبيق على مناهجنا الإسلامية، ولا تصلح للاستعانة بها في بحوثنا الإسلامية كذلك! إننا نقتبس من هذا الفكر – تارة مناهجه، وتارة النتائج التي وصل إليها، وتارة رقعاً ممزقة منه – ثم نخلط هذا كله بحديثنا عن الإسلام، أو عن المجتمع، أو عن مناهج الفكر والنظر.. وهذه كلها جهالة تتباهي وهي تتبدى في ثياب المعرفة! وأحياناً يضاف إلى الجهالة التفاهة وسوء النية كذلك! يقول الأستاذ المهتدي محمد أسد (ليوبولدفايس) في كتابه القيم: (الإسلام على مفترق الطرق": "يخبرنا التاريخ أن جميع الثقافات الإنسانية، وجميع المدنيات، أجسام عضوية تشبه الكائنات الحية.. إنها تمر في جميع أدوار الحياة العضوية، التي يجب أن تمر بها. إنها تولد، ثم تشب وتنضج، ثم يدركها البلى في آخر الأمر. فالثقافات كالنبات الذي يذوى ثم يستحيل تراباً. تموت في أواخر أيامها، وتفسح المجال لثقافات أخر ولدت حديثاً. "أهذه إذن حال الإسلام؟ ربما ظهرت كذلك عند إلقاء أول نظرة سطحية.. مما لا شك فيه أن الثقافة الإسلامية شهدت نهضة مجيدة، وعهداً من الازدهار. وكان لها من القوة ما يلهم الرجال جلائل الأعمال، وأنواع التضحية. ولقد غيرت معالم الشعوب، وخلقت دولاً جديدة .. ثم سكنت وركدت، وأصبحت كلمة جوفاء .. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحطاطها التام وانحلالها .. ولكن هل هذا كل ما في الأمر؟ "إذا كنا نعتقد أن الإسلام ليس مدنية من المدنيات الأخر، وليس نتاجاً بسيطاً لآراء البشر وجهودهم، بل هو شرع سنة الله لتعمل به الشعوب في كل مكان وزمان، فإن الموقف يتبدل تماماً. "وإذا كانت الثقافة الإسلامية – في اعتقادنا – نتيجة لاتباعنا شرعاً منزلاً.. فإننا حينئذ لا نستطيع أبداً أن نقول: إنها كسائر الثقافات، خاضعة لمرور الزمن، ومقيدة بقوانين الحياة العضوية .. ثم إن ما يظهر انحلالاً في الإسلام ليس إلا موتاً وخلاء يحلان في قلوبنا، التي بلغ من خمولها وكسلها أنها لا تستمع إلى الصوت الأزلي .. ثم ليس ثمة علامة ظاهرة تدل على أن الإنسانية – مع نموها مع الحاضر- قد استطاعت أن تشب عن الإسلام.. إنها لم تستطع أن تبني فكرة الإخاء الإنساني على أساس عملي، كما استطاع الإسلام أن يفعل، حينما أتى بفكرة القومية العليا: "الأمة" .. إنها لم تستطع أن تشيد صرحاً اجتماعياً يتضاءل التصادم والاحتكاك بين أهله فعلاً على مثال ما تم في النظام الاجتماعي الإسلامي .. إنها لم تستطع أن ترفع قدر الإنسان، ولا أن تزيد في شعوره بالأمن، ولا في رجائه الروحي وسعادته. "ففي جميع هذه الأمور نرى الجنس البشري في كل ما وصل إليه، مقصراً كثيراً عما تضمنه المنهج الإسلامي .. فأين ما يبرر القول إذن بأن الإسلام قد ذهبت أيامه؟ أذلك لأن أسسه دينية خالصة. والاتجاه الديني زي غير شائع اليوم؟ ولكن إذا رأيناً نظاماً بني على الدين، قد استطاع أن يقدم منهاجاً عملياً للحياة أتم وأمتن وأصلح للمزاج النفساني في الإنسان، من كل شيء آخر يمكن العقل البشري أن يأتي به عن طريق الإصلاح والاقتراح .. أفلا يكون هذا نسه حجة بالغة في ميدان الاستشراف الديني؟ "لقد تأيد الإسلام – ولدينا جميع الأدلة على ذلك – بما وصل إليه الإنسان من أنواع الإنتاج الإنساني، لأن الإسلام كشف عنها، وأشار إليها، على أنها مستحبة، قبل أن يصل إليها الناس بزمن طويل. "ولقد تأيد أيضاً –على السواء- بما وقع في أثناء التطور الإنساني من قصور وأخطاء وعثرات. لأنه كان قد رفع الصوت عالياً واضحاً بالتحذير منها، من قبل أن تتحقق البشرية أن هذه أخطاء.. وإذا صرفنا النظر عن الاعتقاد الديني نجد – من وجهة نظر عقلية محض – كل تشويق إلى أن نتبع الهدي الإسلامي، بصورة عملية، وبثقة تامة"… …. " نحن لا نحتاج إلى فرض إصلاح على الإسلام – كما يظن بعض المسلمين- لأن الإسلام كامل بنفسه من قبل. أما الذي نحتاج إليه فعلاً، فهو إصلاح موقفنا من الدين، بمعالجة كسلنا، وغرورنا، وقصر نظرنا، وبكلمة واحدة: معالجة مساوئنا … … "إن الإسلام – كمؤسسة روحية واجتماعية- غنى عن كل تحسين. وإن كل تغيير في مثل هذه الحال يطرأ على مدركاته، وعلى تنظيمه الاجتماعي، بافتئات من ثقافة أجنبية -ولو بإشراق ضئيل- سيكون مدعاة إلى الأسف الشديد، وسترجع الخسارة حتماً علينا نحن". ونحن نقول، إن الخسارة لن ترجع علينا – نحن المسلمين وحدنا- ولكنها سترجع على البشرية كلها .. سترجع على البشرية كلها بتشويه وتحريف المصدر الوحيد الباقي لها من هداية الله. وتكدير – أو تسميم – المورد الوحيد، الذي يمكن أن تستقي منه الهدى الرباني الخالص .. وسترجع البشرية كلها بحرمانها هذه المثابة الثابتة المستقرة، في الأرض المرجرجة التي تمور بالأهواء. والتي ظهر فيها الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولم تعد لها منجاة إلا في هذه المثابة الآمنة المستقرة، الموصولة بالله.. والذين يحاولون زعزعة هذه المثابة .. سواء باسم التجديد والإصلاح والتطور، أو باسم التخلص من مخلفات القرون الوسطى! أو تحت أي شعار آخر، هم: أعداؤنا الحقيقيون. هم أعداء الجنس البشري. وهم الذين ينبغي أن نطاردهم، وأن نطلب إلى الجنس البشري مطاردتهم كذلك! إنهم يتحدثون باسم "التقدمية" ضد "الرجعية" في حين أنهم لا يزالون يقتاتون على نتاج القرن التاسع عشر، أو القرن الثامن عشر – نتاج أوربا لا نتاجهم! – ولم يصلوا بعد إلى نتاج القرن العشرين" إنهم متخلفون في تفكيرهم نصف قرن على الأقل. لم يعلموا بعد أن التفكير المضاد للماركسية، وللحيوانية، قد أخذ يبدو كظاهرة عامة في الفكر الأوربي نفسه، بينما هم يتعبدون لمادية وجدلية الفكر الماركسي ومشتقاته! ولنشوء وارتقاء دارون ومشتقاته! إنهم "رجعيون" يزعمون أنهم "تقدميون"! بينما "التقدمية" الحقيقية اليوم تجد نفسها مضطرة أن تعود إلى الدين. تتطلب عنده الطمأنينة والراحة واليقين. بعد الحيرة والقلق والشرود خلال ثلاثة قرون! ونحن الذين وقانا الله شر تلك الملابسات التاريخية التي شردت الفكر الغربي في مجاهل التيه.. نكون أحمق الحمقى إذا نحن شردنا في التيه مختارين بدون عذر ولا سبب ولا ملابسة من ملابسات التاريخ! ولا نكون مضيعين لأنفسنا في التيه فحسب، بل نكون مضيعين للبشرية كلها، حين نُفقدها المثابة الثابتة، التي يمكن أن تفئ إليها ذات يوم. فنجد عندها الأمن والطمأنينة والاستقرار، بعد طول الشرود والقلق والعثار. فلنقدر تبعتنا الخطيرة تجاه أنفسنا وتجاه البشرية كلها في هذا الأمر الخطير.
والخاصية الثالثة من خصائص التصور الإسلامي هي .. الشمول .. وهي كذلك ناشئة من طبيعة الخاصية الأولى: خاصية أنه رباني، من صنع الله لا من صنع الإنسان.. والشمول طابع الصنعة الإلهية الأصيل! فالإنسان لأنه أولاً محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان .. إذ هو حادث زمن، يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث. ومتحيز في مكان، سواء كان فرداً أو كان جيلاً أو كان جنساً، لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان – كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان – ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك .. يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدود كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك –كما أسلفنا- ولأنه فوق أنه محدود الكينونة – بهذه الاعتبارات كلها- محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته – فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله… الإنسان وهذه ظروفه، حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك، يجئ تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها .. يجئ تفكيره جزئياً .. يصلح لزمان ولا يصلح لآخر. ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر. ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر .. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه .. لأنه هذه كلها ممتدة في الزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينونة الإنسان ذاته، ومجال إدراكه .. وذلك كله فوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان! وكذلك لا يمكن أن تجئ فكرة بشرية، ولا أن تجئ منهج من صنع البشرية يتمثل فيه "الشمول" أبداً .. إنما هو تفكير جزئي. وتفكير وقتي. ومن جزئيته يقع النقص، ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يختم التغيير، ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام "التناقض" أو دوام "الجدل" المتمثل في التاريخ الأوربي! فأما حين يتولى الله –سبحانه- ذلك كله .. فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق فيه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت .. وهكذا كان "الشمول" خاصية من خواص "التصور الإسلامي". وتتمثل خاصية الشمول التي يتسم بها هذا التصور في صور شتى: إحدى هذه الصور وأكبرها: رد هذا الوجود كله .. بنشأته ابتداء، وحركته بعد نشأته، وكل انبثاقة فيه، وكل تحور وكل تغير وكل تطور. والهيمنة عليه وتدبيره وتصريفه وتنسيقه .. إلى إرادة الذات الإلهية السرمدية الأزلية الأبدية المطلقة .. هذه الذات. المريدة، القادرة، المطلقة المشيئة، المبدعة لهذا الكون، ولكل شيء فيه ولكل حي، ولكل حركة، وكل انبثاقة، وكل تحور، وكل تغير، وكل تطور. بقدر خاص .. وكل انبثاق وليد .. وهذه هي حقيقة "التوحيد" الكبيرة، التي هي المقوّم الأول للتصور الإسلامي .. وتقرير هذه الحقيقة يشغل مساحة واسعة من القرآن الكريم. لا نملك أن نستعرضها هنا. فسيجئ بعضها عند ذكر خاصية "الإيجابية" في هذا القسم. كما سيجئ بعضها الآخر عند ذكر خاصية التوحيد في نهاية هذا القسم من البحث. ثم يجئ التفصيل الكامل بوصفها المقوّم الأول من مقوّمات التصور الإسلامي، في القسم الثاني من هذا البحث الخاص بالمقومات. فنكتفي هنا بتقدير قيمة هذه الخاصية: إن هذا التصور – عن طريق خاصية الشمول في صورتها هذه – يملك أن يعطينا تفسيراً مفهوماً. لوجود هذا الكون ابتداء. ثم لكل حركة فيه بعد ذلك وكل انبثاقة … ويعطينا -على الأخص- تفسيراً مفهوماً لانبثاق ظاهرة "الحياة" في المادة الصماء. وهي بدون شك شيء آخر غير المادة الصماء. شئ هائل. وشئ عجيب. وشئ مقصود. وبين خصائصه المادة الصماء من الأبعاد، ما يلي مباشرة ما بين العدم والوجود من الأبعاد. إن هذا الكون يواجه الكينونة الإنسانية ابتداء بوجوده! ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا الوجود. ثم يواجهها بتناسقه وتوازنه وموافقاته العجيبة – التي يستحيل أن تأتي بها المصادفة- فللمصادفة كذلك قانون يستحيل معه أن تتجمع هذه الموافقات كلها مصادفة. ويتطلب منها إدراكاً وتفسيراً لهذا التناسق والتوازن والموافقات العجيبة!… والحياة – كذلك تواجه الكينونة الإنسانية بعلامات استفهام كثيرة، لا تقل –إن لم تزد عمقاً- عن علامات الاستفهام التي يثيرها الكون بوجوده وبتناسقه: هذه الحياة كيف انبثقت في المادة الميتة؟ وكيف سارت –وتسير- سيرتها هذه العجيبة المحوطة بآلاف الموافقات والموازنات والتقديرات المرسومة المحسوبة بهذا الحساب الدقيق؟ إن التصور الإسلامي هو –وحده- الذي يملك أن يقدم لنا التفسير المفهوم لكل هذه الموافقات في "تصميم الكون". هو الذي يملك أن يقدم لنا تفسيراً نواجه به كل علامة استفهام عن وجود هذا الكون ابتداء، وعن كل انبثاقة تقع فيه. كما أنه هو الذي يملك أن يفسر لنا سر انبثاق الحياة في المادة الميتة، وسر سيرتها هذه السيرة العجيبة. دون أن نضطر إلى الهروب من سؤال واحد، أو إلى المماحكة والمماحلة والإحلالة إلى جهات غير محددة المفهوم – كالإحالة إلى الطبيعة! إن المسافة بين الوجود والعدم مسافة لا يكاد يعبرها العقل البشري. فكيف وجد هذا العالم؟ كيف وجدت هذه "الطبيعة" إن كانوا يعنون بها الوجود المادي؟ كيف يعبر العقل البشري هذه المسافة الهائلة إلا بالإحالة على الإرادة المبدعة، التي تقول للشيء: كن فيكون؟ إنه إذا لم يعترف بهذه الإرادة المبدعة عجز تماماً عن التعليل والتفسير. أو تخبط تخبط الفلاسفة في شتى العصور! والمسافة بين المادة الجامدة والخلية الحية تلي المسافة التي بين الوجود والعدم. إنها كذلك مسافة هائلة لا يعبرها العقل البشري إلا بالإحالة على تلك الإرادة المبدعة، التي تنشئ ما تريد إنشاء، وتبدعه إبداعاً. إرادة الله "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى". والعقل البشري، والكينونة البشرية كلها تجد في هذا الجواب ما يريح. لأنه مفر من أن تجئ الحياة إلى المادة الميتة من مصدر آخر غير المادة الميتة الفاقدة للحياة. ففاقد الشيء لا يعطيه. ولا يمكن القول بأن الحياة خاصية من خواص المادة الكامنة فيها .. وإلا فكيف ظلت كامنة فيها ما لا يحصى من السنين، لتظهر في وقت معلوم، دون مدبر وراءها ودون قصد مرسوم؟! وحسبنا هذه العجالة عن الكون والحياة في هذا الموضع، فسيجئ الكلام المفصل عنها في موضعه في القسم الثاني. ولنعد إلى خاصية الشمول التي نتحدث عنها، والتي تتجلى في رد كل شيء في هذا الكون إلى الله. وشمول إرادته وتدبيره وهيمنته وسلطانه لكل شيء.. فنورد بعض النصوص القرآنية التي ترسم هذه الخاصية: (القمر: 49) (الفرقان: 2) (الرعد: 8) (طه: 50) (النحل: 40) (الأعراف: 54) (يس: 37-40) (النور: 45) (الأنبياء: 30) (الأنعام 95-99) وحتى الأحداث التي يبدو فيها سبب قريب ظاهر، يعني التصور الإسلامي بردها إلى إرادة اله من وراء الأسباب القريبة. (الواقعة: 57-74) (الأنفال: 17) ولا نملك في هذا الموضع أن نمضي – أكثر من هذا – في تصوير خاصية الشمول في صورتها هذه – صورة التوحيد – فسيجئ تفصيلها في القسم الثاني من الكتاب عند الكلام عن "مقومات التصور الإسلامي" .. فحسبنا هذا المجمل في بيان هذه الخاصية.. وحسبنا أن نقول: إن التصور الإسلامي – عن طريق هذه الخاصية في صورتها هذه- يمنح القلب والعقل راحة وطمأنينة، واتصالاً بحقيقة المؤثرات الفاعلة في هذا الوجود – كما هي في عالم الحقيقة والواقع – ويعفى الفكر البشري من الضرب في التيه بلا دليل، ومن الإحالة على أسباب غير مضبوطة – وأحياناً غير موجودة- كالإحالة على "الطبيعة"! أو الإحالة على "العقل"! أو الإحالة على كائنات أسطورية كالتي تصورتها الوثنيات، وتلبست بها الفلسفات، على مدار التاريخ. وذلك كله فضلاً على العنصر الأخلاقي الذي ينشئه هذا التصور ويثبته، في القلب البشري وفي الحياة البشرية. وهو يرد خيوط الكون والحياة كلها إلى يد الله، ورقابته، وهيمنته، وسلطانه (مما سنفصل الحديث عنه في خاصية الإيجابية). وصورة أخرى من صور خاصية الشمول في التصور الإسلامي .. فهو كما يتحدث عن حقيقة الألوهية وخصائصها وآثارها وصفاتها، باعتبارها الحقيقة الأولى، والحقيقة الكبرى، والحقيقة الأساسية في هذا التصور.. كذلك يتحدث عن حقيقة العبودية وخصائصها وصفاتها. يتحدث عن هذه الحقيقة ممثلة في الكون، والحياة، والإنسان. فيتحدث عن حقيقة الكون، وعن حقيقة الحياة، وعن حقيقة الإنسان، ويتناول – في هذا الحديث- طبيعتها ونشأتها وصفاتها وأحوالها، وعلاقاتها فيما بينها، ثم علاقتها بالحقيقة الإلهية الكبرى. ويربط بين مجموع تلك الحقائق، من جميع جوانبها، في تصور واحد منطقي فطري، يتعامل مع بديهة الإنسان وفكره ووجدانه، ومع مجموع الكينونة البشرية في يسر وسهولة. وهكذا تتكون من مجموعة الحقائق التي يتناولها هذا التصور في شمول وسعة ودقة وتفصيل، وصورة كاملة شاملة، وتفسير جامع مفصل، لا يحتاج إلى إضافة من مصدر آخر. بل لا يقبل إضافة من مصدر آخر. لأنه أوسع وأشمل، وأدق وأعمق، وأكثر تناسقاً وتكاملاً من كل مصدر آخر.. ولقد وقع الفساد في التصور الإسلامي، ووقع التعقيد والتخليط، حينما شاء جماعة ممن عرفوا في التاريخ باسم "فلاسفة الإسلام" أن يستعيروا بعض التصورات الفلسفية الإغريقية، وبعض المصطلحات – وبخاصة من أرسطو وأفلوطين وبعض اللاهوتيين المسيحيين – ويدخلوها في جسم "التصور الإسلامي"! إن هذا التصور من الشمول والسعة، ومن الدقة والعمق، ومن الأصالة والتناسق بحيث يرفض كل عنصر غريب عليه، ولو كان هذا العنصر "إصطلاحاً" تعبيرياً من الاصطلاحات التي تقتضيها أزياء التفكير الأجنبية. فكل اصطلاح له تاريخ معين، وله إيحاءات معينة مستمدة من ذلك التاريخ، ولا يمكن تجريده من هذه الملابسات، والزج به في مجال جديد، منقطع عن تاريخه.. وللتصور الإسلامي اصطلاحاته الخاصة المتفقة في طبيعة اشتقاقها اللغوي، وفي ملابساتها التاريخية والموضوعية، مع طبيعته وإيحاءاته .. وهذه ظاهرة دقيقة، تحتاج إلى حس لطيف، يدرك مقتضيات هذا التصور في الشعور، ومقتضياته كذلك في التعبير. إن هذا التصور يقوم ابتداء على تعريف الناس بربهم تعريفاً دقيقاً كاملاً شاملاً يعرّفهم بذاته سبحانه، ويعرفهم بصفاته، ويعرفهم بخصائص الألوهية المتفردة، التي تَفْرِقها تماماً من خصائص العبودية. كما يعرفهم بأثر هذه الألوهية في الكون، وفي الناس، وفي جميع العوالم والأمم الحية. ويتم هذا التعريف على نطاق واسع جداً في القرآن الكريم، يصبح معه الوجود الإلهي في النفس البشرية، وجوداً أكيداً واضحاً، موحياً، مؤثراً، يأخذ النفس من أقطارها جميعاً، وتعيش معه النفس مشدودة إليه، لا تملك التفلت منه، ولا نسيانه، ولا إغفاله، لأنه من القوة والوضوح والفاعلية، بحيث يواجه النفس دائماً، ويتراءى لها دائماً، ويؤثر فيها دائماً: (الفاتحة: 2-4) (البقرة: 255) (آل عمران: 2-6) (آل عمران: 26-27) (الأنعام: 12-19) (الرعد: 8-16) (الأنبياء: 19-23) (الحديد: 1-6) … الخ … الخ … ويعرّف الناس بطبيعة الكون الذي يعيشون فيه، وخصائصه، وارتباطه بخالقه، ودلالته على خالقه، واستعداده لنشأة الحياة فيه والأحياء، وتسخيره لهم بإذن الله… الخ. في أسلوب مفهوم للفطرة، مفهوم للعقل، يجد مصداقه في الواقع المحسوس، كما يجد مصداقه في الفطرة المكنونة.. يعرفهم به على نطاق واسع. ويدعوهم لمعرفته، وإدراك ناموسه وأسراره. والتعامل معه معامله صحيحة، ناشئة عن ذلك الإدراك والتعارف والتجاوب: (البقرة: 22) (الأنعام:1) (الرعد: 2-4) (النحل: 10-17) (الأنبياء: 30-33) (الحج: 65) (المؤمنون: 17-19) (النور: 43-44) (الفرقان: 45-49) (يس: 33-40) (فصلت: 9-12) (ق: 6-11) … الخ … الخ … ويحدثهم عن الحياة والأحياء. فيعرفهم مصدر الحياة ومصدر الأحياء، وشيئاً من خصائصها كذلك، بالقدر الذي تسمح مدارك البشر بمعرفته. ويعقد بينهم وبين الأحياء جميعاً آسرة العبودية لله، ووشيجة القرابة في خلقهم كلهم بإرادته، وفي اشتراكهم في بعض الخصائص، التي تشير إلى الإرادة الواحدة المبدعة، وإلى الصنعة الواحدة البارزة. ويذكرهم بنعمة الله عليهم في تسخير الكثير من هذه الأحياء لهم. (الأنبياء: 30) (النور: 45) (الأنعام: 38) (هود: 6) (العنكبوت: 60) (الحج: 5) (الروم: 19) (يس: 33-36) (الشورى: 11) (الزخرف: 11-13) (عبس: 24-32) (الأعلى: 1-5) (النحل: 49-50) (النور: 41) … الخ … الخ … ويحدثهم عن الإنسان حديثاً مستفيضاً، يتناول مصدره ومنشأه، وطبيعته وخصائصه، ومركزه في هذا الوجود، وغاية وجوده، وعبوديته لربه ومقتضيات هذه العبودية. ثم نواحي ضعفه وقوته، وواجباته وتكاليفه. وكل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياته في هذه الأرض، ومآله في العالم الآخر. ولما لم يكن قصدنا في هذه الفقرة إلا بيان خاصية الشمول في التصور القرآني، لا بيان حقائق هذا التصور ومقوماته – فهذه لها مكانها في القسم الثاني من الكتاب – فإننا نكتفي بإثبات بعض الآيات عن حقيقة الإنسان – كما أثبتنا بعض الآيات عن حقيقة الإنسان – كما أثبتنا بعض الآيات عن الحقيقة الإلهية، وعن حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، مرجئين الحديث المفصل عنها إلى موضعه في القسم الثاني عن "مقومات التصور الإسلامي". (الحجر: 26-31) (المؤمنون: 12-16) (الذاريات: 56-58) (البقرة: 30) (الإسراء: 70) (البقرة: 38-39) (سورة العصر) (ق: 16) (البلد: 4) (يس: 77) (الكهف: 54) (المعارج: 19-22) (النساء: 28) (يونس: 12) (هود: 9-10) (الإسراء: 11) (العلق: 6-7) (الشمس: 7-10) (التين: 4-6) وهكذا يجد الإنسان من كثرة النصوص القرآنية وتنوعها حول هذه الحقائق الأساسية ما يشعره بالقصد إلى بيانها وتحديدها، والتوسع فيها، لتكون قاعدة كاملة شاملة للتصور الإسلامي المستقل، الذي يستمد لبناته – كما يستمد تصميمه- من المصدر الرباني المضبوط، الموثوق بصحتهن وبعلمه وخبرتهن فيغنى كامل عن الاستمداد من أي مصدر آخر جزئي المعرفة ظنيّ المعرفة، يضرب في التيه بلا دليل! وصورة ثالثة من صور الشمول في التصور الإسلامي. فهو إذ يرد أمر الكون كله. وأمر الحياة والأحياء، وأمر الإنسان والأشياء.. إلى إرادة واحدة شاملة.. وإذا يتناول الحقائق الكلية كلها: حقيقة الألوهية – الحقيقة الأولى والكبرى والأساسية- وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان، بمثل ذلك الشمول الذي أشرنا إليه .. هذا التصور إذا يتناول الأمور على هذا النحو الشامل –بكل معاني الشمول- يخاطب الكينونة الإنسانية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وكل اتجاهاتها. ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها. جهة واحدة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبغي رضاها. جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء.. كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها. وتجد إجابة على كل سؤال يجيش فيها، وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام.. عندئذ تتجمع هذه الكينونة .. تتجمع شعوراً وسلوكاً، وتصوراً واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقاً، ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق، ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق! والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها، لأنها تكون حينئذ في حالة "الوحدة" التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق -سبحانه- والوحدة هي حقيقة هذا الكون –على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال- والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء- على تنوع الأجناس والأنواع –والوحدة هي حقيقة الإنسان على تنوع الأفراد والاستعدادات- والوحدة هي غاية الوجود الإنساني –وهي العبادة- على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها- وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود .. وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة" في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية، وفي أوج تناسقها –كذلك- مع "حقيقة" هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه، ومع "حقيقة" كل شيء في هذا الوجود، مما تؤثر فيه وتتأثر به .. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار. وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدواراً، عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كتاب التاريخ الإنساني.. وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى – وهي لابد كائنة بإذن الله- سيصنع الله بها الكثير. مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم: لأنها من صميم قوة هذا الكون، وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضاً.. ومن مظاهر ذلك التجمع في الكينونة الإنسانية، أن يصبح النشاط الإنساني كله حركة واحدة، متجهة إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني .. العبادة .. العبادة التي تتمثل فيها عبودية الإنسان لله وحده في كل ما ينهض به من شؤون الخلافة.. وهذا التجمع النفسي والحركي هو ميزة الإسلام الكبرى. بما أنه يتناول بالتفسير كل الحقائق التي تواجه النفس البشرية في الكون كله، ويتناول بالتوجيه كل جوانب النشاط الإنساني. ففي الإسلام – وحده- يملك الإنسان أن يعيش لدنياه وهو يعيش لآخرته، وأن يعمل لله وهو يعمل لمعاشه، وأن يحقق كماله الإنساني الذي يطلبه الدين، في مزاولة نشاطه اليومي في خلافة الأرض، وفي تدبير أمر الرزق. ولا يتطلب منه هذا إلا أمراً واحداً: أن يخلص العبودية لله في الشعائر التعبدية وفي خالجة، وكل عمل وكل نية، وكل نشاط وكل اتجاه. مع التأكد من أنه لا يتجاوز دائرة الحلال الواسعة، التي تشمل كل طيبات الحياة.. فالله خلق الإنسان بكل طاقاته لتنشط كلها، وتعمل كلها، وتؤدي دورها.. ومن خلال عمل هذه الطاقات مجتمعة، يحقق الإنسان غاية وجوده، في راحة ويسر، وفي طمأنينة وسلام، وفي حرية كاملة منشئوها العبودية لله وحده. وبهذه الخاصية صلح الإسلام أن يكون منهج حياة شاملاً متكاملاً. منهجاً يشمل الاعتقاد في الضمير، والتنظيم في الحياة – لا بدون تعارض بينهما- بل في ترابط وتداخل يعز فصله، لأنه حزمة واحدة في طبيعة هذا الدين، ولأن فصله هو تمزيق وإفساد لهذا الدين. إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و "معاملات" مسألة جاءت متأخرة عند التأليف في مادة "الفقه". ومع انه كان المقصود به –في أول الأمر- مجرد التقسيم "الفني"، الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه –مع الأسف- أنشأ فيما بعد آثار سيئة في التصور، تبعته – بعد فترة – آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة "العبادة" إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط الذي يتناوله "فقه العبادات". بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات"! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لاشك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي. ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة. أو يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولاً وأخيراً. وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية وتشريعات الأسرة.. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج… ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان .. والنشاط الإنساني لا يكون متصفاً بهذا الوصف، محققاً لهذه الغاية – التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني – إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني، فيتم بذلك إفراد الله –سبحانه- بالألوهية، والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة. لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله! وأنواع النشاط التي أطلق عليها "الفقهاء" اسم "العبادات" وخصوصاً بهذه الصفة – على غير مفهوم التصور الإسلامي – حين تراجع مواضعها في القرآن تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي أنها لم تجئ مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم "المعاملات" .. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطراً من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني. وتحقيقاً لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله – سبحانه- بالألوهية. إن ذلك التقسيم –مع مرور الزمن- جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا "مسلمين" إذا هم أدوا نشاط "العبادات" –وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزالون كل نشاط "المعاملات" وفق منهج آخر. لا يتلقونه من الله. ولكن من إله آخر! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة، ما لم يأذن به الله! وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين – على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة. أو بتعبير آخر يخرج من هذا الدين.. وهذه هي الحقيقة الكبيرة، التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه، ويريد في الوقت ذاته، أن يحقق غاية وجوده الإنساني. إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني – وإن كل هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة، يقوم عليها بناء الحياة كله – بل إن أهميتها تتجلى كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها –صغر أم كبر- جزءاً من هذه العبادة، أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامل فيه، وهو إفراد الله – سبحانه- بالألوهية، والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي تلقى الوحي من الله. وحالة الإسراء والمعراج أيضاً: (سورة الفرقان:1) (الإسراء: 1) ويتحدث الأستاذ المهتدي محمد أسد (ليوبولدفايس) في كتابه: "الإسلام على مفترق الطرق" حديثاً دقيقاً عن الفرق بين التصور الإسلامي والتصورات الأخرى في هذا الشأن، وعن أثر ذلك التصور في الشعور بجدية الحياة وأهمية كل حركة فيها، باعتباره الوسيلة الوحيدة لبلوغ الإنسان أقصى درجات الكمال الإنساني في هذه الحياة الدنيا. فيقول في فصل بعنوان: "سبيل الإسلام": "يختلف إدراك العبادة في الإسلام عما هو في كل دين آخر .. إن العبادة في الإسلام ليست محصورة في أعمال من الخشوع الخالص، كالصلاة والصيام مثلاً، ولكنها تتناول "كل" حياة الإنسان العملية أيضاً. وإذا كانت الغاية من حياتنا على العموم "عبادة الله" فيلزمنا حينئذ، ضرورة، أن ننظر إلى هذه الحياة في مجموع مظاهرها على أنها تبعة أدبية، متعددة النواحي، وهكذا يجب أن نأتي أعمالنا كلها-حتى تلك التي تظهر تافهة- على أنها عبادات، وأن نأتيها بوعي، وعلى أنها تؤلف جزءاً من ذلك المنهاج العالمي الذي أبدعه الله. تلك حال ينظر إليها الرجل العادي على أنها مثل أعلى بعيد. ولكن أليس من مقاصد هذا الدين أن تتحقق المثل العليا في الوجود الواقع؟ "إن موقف الإسلام في هذا الصدد لا يحتمل التأويل. إنه يعلمنا أولاً أن عبادة الله الدائمة، والمتمثلة في أعمال الحياة الإنسانية المتعددة جميعها، هي معنى الحياة نفسها. ويعلمنا ثانياً أن بلوغ هذا المقصد يظل مستحيلاً ما دمنا نقسم حياتنا قسمين اثنين: حياتنا الروحية، وحياتنا المادية.. يجب أن تقترن هاتان الحياتان في وعينا وفي أعمالنا، لتكون "كلاًّ" واحداً متسقاً .. إن فكرتنا عن وحدانية الله يجب أن تتجلى في سعينا للتوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في حياتنا. "هناك نتيجة منطقية لهذا الاتجاه. هي فرق آخر بين الإسلام وسائر النظم الدينية المعروفة. ذلك أن الإسلام –على أنه تعليم- لا يكتفي بأن يأخذ على عاتقه تحديد الصلاة المتعلقة بما وراء الطبيعة. فيما بين المرء وخالقه فقط. ولكن يعرض أيضاً –بمثل هذا التوكيد على الأقل- للصلاة الدنيوية بين الفرد وبيئته الاجتماعية .. إن الحياة الدنيا لا ينظر إليها على أنها صدفة عادية فارغة، ولا على أنها طيف خيال للآخرة، التي هي آتية لا ريب فيها، من غير أن تكون منطوية على معنى ما. ولكن على أنها وحدة إيجابية تامة في نفسها. والله تعالى "وحده" لا في جوهره فحسب. بل في الغاية إليه أيضاً.. من أجل ذلك كان خلقه وحده، ربما في جوهره، إلا أنه وحدة في الغاية منه بكل تأكيد. "وعبادة الله في أوسع معانيها –كما شرحنا آنفاً- تؤلف في الإسلام معنى الحياة الإنسانية .. هذا الإدراك وحده يرينا إمكان بلوغ الإنسان الكمال – في إطار حياته الدنيوية الفردية- ومن بين سائر النظم الدينية نرى الإسلام –وحده- يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا .. إن الإسلام لا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات "الجسدية"، ولا هو يعدنا بسلسلة متلاحقة الحلقات من "تناسخ الأرواح" على مراتب متدرجة – كما هو الحال في الهندوكية – ولا هو يوافق البوذية التي تقول بأن الكمال والنجاة لا يتمان إلا بعد انعدام النفس الجزئية وانفصام علاقاتها الشعورية من العالم .. كلا. إن الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا الفردية. وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو". وبعد فإن هذا الشمول –بكل صوره- فوق أنه مريح للفطرة البشرية، لأنه يواجهها بمثل طبيعتها الموحدة، ولا يكلفها عنتاً، ولا يفرقها مزقاً.. هو في الوقت ذاته يعصمها من الاتجاه لغير الله في أي شأن وفي أية لحظة، أو قبول أية سيطرة تستعلي عليها بغير سلطان الله، وفي حدود منهج الله وشريعته. في أي جانب من جوانب الحياة. فليس الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده في أمر "العبادات" الفردية، ولا في أمر الآخرة –وحدهما – بل الأمر والهيمنة والسلطان لله وحده، في الدنيا والآخرة. في السماوات والأرض. في عالم الغيب وعالم الشهادة. في العمل والصلاة.. وفي كل نَفَس، وكل حركة، وكل خالجة، وكل خطوة، وكل اتجاه: (الزخرف: 84)
|